علم نفس ارتداء الكمامة (1):..ماذا تعرف عن "تأثير الحرباء"؟!

أقنعتُ سيّدة كانت تجلس قبالتي في الحافلة بارتداء كمامتها بشكل صحيح ومن دون أن أتفوّه بكلمة واحدة. كلّ ما فعلته أنني رفعت الكمامة عن وجهي قليلا ثم أعدت ارتداءها كما لو أنني أسوّيها في مكانها ، فما كان من السيدة المهذّبة ، في الثلاثينات أو الأربعينات من العمر ، سوى أن تسحب كمامتها إلى الأعلى لتغطّي مع ذقنِها فمَها وأنفَها بالكامل ، وهذا ما يوصي به الأطباء دائما.

لقد أوصلتُ إلى السيّدة التي شاركتني في ذلك اليوم ، مساحةً وزمانًا من بين أخطر الأماكن والأزمنة من حيث احتمال انتقال عدوى الإصابة بفيروس كورونا ، رسالةً صامتة مفادُها أنني أريد منها أن تستعمل الكمامة بالطريقة الصحيحة التي تحميها وتحمي مستعملي وسائل النقل الجماعية. فعلتُ ذلك بشكل تلقائي ومن دون تفكير عميق ، لكن ثمة شيء من علم النفس في الحكاية.

فبالإضافة إلى الاعتبارات الصحيّة التي يحدّد لنا الأطباء بناءً عليها : متى ؟ وكيف ؟ ولماذا يجب أن نرتدي الكمامة في الأماكن العامة ؟ هناك أيضا سرّ من أسرار السلوك البشري وراء التزامنا بارتداء الكمامة وكيفية ارتدائنا لها ، ووراء عدم ارتدائنا لها كذلك في كثير من الأحيان. إننا نقلّد بعضنا ، هذا هو السرّ باختصار.

الحرباء التي تعيش بداخلنا !

قد يبدو الأمر أبسط من أن يتمّ تناوله في قصة صحفية ، لكنه في الواقع ، موضوعٌ مُتناول بالدراسة المستفيضة في العشراتِ من الأبحاث العلمية في مجال علم النفس الاجتماعي ، بل إنّ له تسميته الخاصّة به منذ أن توصّلت أعمال باحِثَين من جامعة نيويورك الأمريكية في العام 1999 ، هما Tanya Chartrand وJohn Bargh ، إلى تعريفه وتسميته بـ : "The chameleon effect" أو ''تأثير الحرباء''.

على ما يبدو ، يعرف هذان الباحثان -مثل معظم الناس- القليل عن الحرباء (أو التّاتة ) ، لذلك فهما يعتقدان أنها تغيّر لون جلدها من لونٍ إلى آخر من أجل أن تتماهى مع الألوان الموجودة حولها لتختفي عن أنظار فرائسها أو مفترسيها (*)، فتصبحَ خضراء اللون عندما تكون وسط أوراق الأشجار ، أو بنيّة عندما تمشي على التراب وهكذا ، لذلك اختارا إطلاق اسمها على الظاهرة التي توصّلت إليها أبحاثهما.

ويحدث ''تأثير الحرباء'' هذا عندما يقلّدُ شخصٌ ما ، من دون أن يشعر ، حركاتِ شخص آخر أو مجموعة من الأشخاص من حوله ، أو يجد نفسه مستغرقا في حكّ رأسه لمجرد أنّ الشخص الذي يجلس أمامه قام بفعل ذلك ، أو تصبحَ لهجتُه مشابهة للهجة الشخص أو الأشخاص الذين يحادثهم.

وقد أجرى الباحثان تجارب كثيرة للتحقّق من وجود هذه الحرباء داخل أدمغة البشر، من بينها تجربة شهيرة ، لاحظا فيها أن مجموعة الطلّاب الذين تطوّعوا لحضور وتقييم عرض لممثل طُلب منه -بالتواطؤ مع الباحثين- أن يُكثر من حكّ أنفه ، كانوا يُكثرون من حكّ أنوفهم ، على الرغم من أنهم لم يسجّلوا على دفاتر ملاحظاتهم أن الممثل كان يفعل ذلك ، ما يعني أن "تأثير الحرباء" كان يعمل بشكل لاشعوري.

ويمكن لأي واحد من الناس أن يلاحظ في حياته اليومية ما لاحظه John و Tanya في تجاربهم العلمية ، فعندما يتثاءب شخص ما بعد قضائه ساعات طويلة من العمل الليلي ، سيتثاءب جميع من حوله تقريبا حتى لو لم يكن أيٌّ منهم بحاجة للنوم ، وعندما تُخرج هاتفك في قاعة الانتظار عند الحلّاق أو في الحافلة ، لتُعيد قراءة رسالة زوجتك بخصوص المشتريات ، سيبدأ الجالسون في القاعة مباشرة في استعمال هواتفهم الواحدَ تلو الآخر (**).

نفس الأمر سيحدث عند ارتداء الكمامة أو قناع الوجه في مكان عام ، وعند عدم ارتدائها ، وعند ارتدائها تحت الأنف أو في مرفق اليد أو تركها تتأرجح على أذن واحدة. ستنتقل عدوى ارتدائها أو عدم ارتدائها بين الموجودين في المكان من دون أن يشعر أي منهم بذلك ، حسب ما تؤكده الأخصائية النفسانية "منى عبد اللاوي".

قناعٌ لوجهك..ولوجوه الآخرين

ولأن فعالية الكمامة في الوقاية من انتقال عدوى الإصابة بفيروس كوفيد-19، تكونُ أكبرَ كلّما كان ارتداؤها معمّما وجماعيا ، فإن حثّ الآخرين على ارتداء كماماتهم وبالطريقة الصحيحة ، سيكون ثاني أفضل ما يمكنك فعله لحماية نفسك وحماية الآخرين من تفشّي الوباء ، بعد ارتدائها بنفسك.

وتنصح الأخصائية النفسانية "منى عبد اللاوي" في هذا الشأن ، باستغلال "تأثير الحرباء" لجعل الالتزام بالكمامة سلوكا جماعيا ، من خلال الالتزام الذاتي بارتدائها في الأماكن العامة ، فقط لا غير ، ثم ترك بقية العمل لآلة النسخ الكامنة في "لاوَعْي" الآخرين.

واللاوَعْي أو اللاشعور ، لمن يرغب في التعرّف عليه ، هو مصدر 93 بالمئة من سلوكات الإنسان وحركاته وتصرّفاته ولغة جسده ، حسب ما توضحه عبد اللاوي ، وهذا يعني أنّ الشخص الذي يرفع حاجِبَيْهِ للأعلى 10 مرات في اليوم ، سيفعل ذلك 9 مرّات على الأقل من دون أن يشعر ، ومرة واحدة عن قصد ووعي بما يفعله، وسيكون تأثير صديق ما قام بنفس الحركة أمامه وراء نسبة لا بأس بها من هذه المرّات التسع.

لذلك ، عندما يلبس شخص الكمامة في مكان ما ، فإن فعاليتها ستكون مضاعفة: أوّلا من الناحية الصحية ، بتخفيض احتمالات انتقال عدوى الإصابة بالمرض عبر الرذاذ المنبعث من الأنف والفم عند السعال أو العطاس ، إلى أدنى حدّ ممكن ، وثانيا من الناحية النفسية ، بانتقال عدوى ارتداء الكمامة من شخص لآخر ، وهو ما سيمثّل حماية جماعية أكبر.

ولن يكون ترك الحبل على الغارب لـ"اللاوعي" ، مناسبا دائما ، فقد يكون ذلك سببًا لتأثر الإنسان بسلوك خاطئ ، كأن يكثر من لمس كمامته بيديه ، أو ينزلها عندما يرغب في الحديث ، تأثرا بالشخص المقابل ، وفي هذه الحالة ، تقدّم الأخصائية النفسانية فكرة جيّدة أخرى كبديل لـ"اللاوعي" وهي ببساطة : "الوعي" ، أي أن تذكّر نفسك دائما و"عن وعي" ، بقواعد الاستعمال الصحيح لقناع الوجه كلّما لاحظت سلوكا غيرَ صحيحٍ من حولك ، حتى لا تلتقطه من دون أن تشعر.

سيحدث كلّ ذلك ببساطة شديدة ، لأنه أمر فطري جُبلت عليه أنفسنا منذ الولادة ، "وقد خلق الله الإنسان ليكون كائنا اجتماعيا يؤثر ويتأثر ، منذ الساعة الأولى لخروجه من بيته وإلى غاية عودته إليه ، وحتى قبل ذلك وبعده" ، تقول النفسانية.


(*) وفق مقال للكاتب العلمي هنري نيكولس على موقع "BBC Earth" فإن الحرابي ( جمع حرباء ) لا تغيّر ألوانها من أجل التماهي مع ألوان الخلفية دائما ، ولكنها تفعل ذلك عادة لأغراض تتعلق بموسم التزواج.

(**) النظر إلى هاتفك في أي مكان ، يجعل الأشخاص القريبين منك يفعلون الشيء نفسه في أقل من دقيقة ، حسب ما توصّلت إليه دراسة أجراها باحثون من جامعة "بيزا" الإيطالية ، ونشرت نتائجها على مجلة "Journal of Ethology" العلمية قبل 3 أشهر فقط  ( في أفريل 2021 ).

مقالات الواجهة

الأكثر قراءة

  1. تحسباً لعيد الفطر.. بريد الجزائر يصدر بيـانا هاما

  2. دولة عربية تتجه لحجب "تيك توك"

  3. هذه حالة الطقس لنهار اليوم الخميس

  4. الإصابة تنهي موسم "رامي بن سبعيني" مع دورتموند

  5. منذ بدء العدوان.. إرتفاع حصيلة شهداء غزة إلى 32552 شهيد

  6. القرض الشعبي الجزائري يطلق قرضًا لفائدة الحجاج

  7. بيان من وزارة الخارجية حول مسابقة التوظيف

  8. الفريق أول السعيد شنقريحة في زيارة عمل وتفتيش إلى قيادة الدرك الوطني

  9. "SNTF".. برمجة رحلات ليلية على خطوط ضاحية الجزائر

  10. الفنانة سمية الخشاب تقاضي رامز جلال.. ما القصة؟