سعد الله والمثقفون المزيفون؟

بمناسبة الذكرى الثانية لوفاته

حينما نناضل من أجل افتكاك المرتبة المحترمة في سلم السلطة وصناعة الرأي العام لصالح الإعلام والصحافة وحرية التعبير، فإن ذلك يتطلب بالدرجة الأولى تنظيف البيت من الداخل وكنس المنتسبين لمهنة المتاعب والأضواء الحارقة من المزيفين والدخلاء والطامعين ومن بعد ذلك نفكر في الإطار القانوني لتنظيم هذه المهنة التي لم تسلم من الفساد هي الأخرى وذلك باعتراف أصحابها من الجيل القديم والحديث معا، وما لم يحدث ذلك فإنه من غير الممكن أن نطالب صحاب القرار تقديم الاحترام والتقدير والانحناء لصاحبة الجلالة وهي تفتقد إلى الطهارة المطلوبة، وكما أنه لم يحترم قسم أبقراط في السلك الطبي ولم تحترم وصية عمر بن الخطاب الموجهة للسادة القضاة ولم تطبق سنة رسول الله في وصيته الشهيرة حول حرمة الدماء والأموال لم يحترم كذلك عرض الثقافة وشرف المهنة الإعلامية على الأقل عند بعض الذين باعوا أنفسهم للشيطان وتواطئوا مع السلطان على حساب الضمير وقدسية الكلمة، فحينما طرح الكاتب السوري المقيم بباريس الأستاذ هاشم صالح سؤاله المتهور على تعبيره في مقاله الذي نشر بجريدة الشرق الأوسط يوم الأربعاء 18 أوت 2013 بعنوان "من هم المثقفون الشرفاء؟" وذلك بالقول: "من سيؤلف كتابا عن المثقفين الغوغائيين المزيفين في العالم العربي؟ كما فعل الكاتب باسكال بوتيفالس في كتابه الذي نشر بباريس بعنوان ـ المثقفون الشرفاء ـ والذي سبق له وقد نشر سنه 2011 كتابا بعنوان "المثقفون المزيفون...الانتصار الإعلامي لخبراء الكذب والتضليل"، يحدث ذلك كما يقول المفكر صالح لأن الجو والمناخ الديمقراطي متوفر في الغرب دون غيره من أمم الشرق التي لازالت بعيدة عن هذه الفضائل الغائبة في مؤسساتنا ومن حياتنا اليومية.

 إن ما استفزنا به الأستاذ هاشم وما يكون ذلك إلا لمن ألقى السمع وهو بصير يجعلنا نتطلع بشغف إلى العلبة السوداء التي جاءت بين دفتي "الكتاب الأسود" الذي صدر هذه الأيام في تونس الجديدة، فلقد تم فضح الأسماء التي انتهكت شرف الكتابة مقابل دراهم معدودة تلقتها من نظام بن علي الذي رشا كل من كان له الاستعداد لتلميع صورته أمام العالم ومن محاسن الصدف أنه وقبل أيام قليلة من ميلاد "الكتاب الأسود" الصادر في تونس المرزوقي هذه الأيام والذي فضح فيه الأسماء التي كانت تدعي شرف الكلمة ونزاهة العمل الإعلامي ولكنها خانت ذلك كله مقابل دراهم معدودة كانت تقبضها دون خجل من نظام بن علي الذي هرب لبلاد حامي"الحرامية"وليس الحرمين، ومن محاسن الصدف كما يقال في المثل أنه وقبل أسابيع قليلة من هذا التوقيت الحرج الذي تمر به التجربة الديمقراطية والشفافية في تونس، نشر الكاتب المصري حسام عبد الهادي كتابه المهم والقيم "الإعلام الأسود" حيث نشر القائمة الإسمية للإعلاميين الذين تصدروا المشهد في القنوات الفضائية المصرية ليس لتنوير الرأي العام وخدمة الوطن والمواطن المصري وإنما لحرق طائفة من أبناء مصر، هذه المحرقة التي شارك ويشارك فيها للأسف حتى المنتسبين زورا لزمرة المثقفين والفنانين، وما ذلك إلا لإرضاء السلطة العسكرية وأصحاب القرار في مصر.

من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها... وبالتالي ما أقدم عليه الشرفاء في مصر وتونس وإن كان قريبا من ذلك حدث من قبل في ليبيا والعراق، يعد بحق خطوة ايجابية في النضال لكسر جدار الخوف والتخلص من الطمع الذي استدرجت إليه السلطة الظالمة حتى النخب الدينية التي من المفترض هي ضمير الأمة الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهنا لا بد من وقفة إجلال وترحم على الدكتور أبوالقاسم سعد الله الذي أبى إلا أن يكون سيد نفسه إلى أن لقي ربه، فلقد رفض وبأدب أقول بأدب ودون مزايدة المناصب السياسية التي عرضت عليه من السلطة ورأى أنها تشغله عن رسالته ومشاريع الثقافية والفكرية كما وأنه كان ضد تولية المؤهلين علميا أعمالا سياسية وإدارية لأن في ذلك إفراغا للصرح العلمي من الكفاءات الأكاديمية وقتل للمواهب والإبداع ومع ذلك ما كان لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة وبمناسبة الذكرى الخمسين لاندلاع الثورة الجزائرية إلا أن يكتب مقدمة لموسوعة سعد الله حول التاريخ الثقافي للجزائر، حيث قال "وإني أمام هذا الإنجاز العظيم..لا تسعني الدلالات ولا المعاني لأعرب عن فخري واعتزازي كمواطن جزائري بواحد من وطنه الذي كابد كل ألوان وأطياف التعب والفراق والغربة وموت الأهل بعيدا عنه ونكبته في ضياع ما قام على جمعه وتوضيبه عشرات السنين في لحظة عدمية عابثة سنة 1988..."

لقد غادرنا منذ سنتين خلت الشيخ سعد الله في جنازة شعبية مهيبة وصادقة مثل صدق صاحبها لا مكان فيها للمنافقين من حريم السلطان البشعة، فهل هذا راجع إلى أن سعد الله لم يكن يجد السعادة إلا وهو مع الله وبرفقة الكتاب بعيدا عن عفن السلطة؟ قد يكون الأمر كذلك، ففي الحوار المطول الذي أجراه معه الصحفي القدير والزميل الكبير بشير حمادي بجريدة الحقائق سنة 2007، يفرق سعد الله بين مؤرخ ومثقف السلطة وبين المؤرخ المتحرر من إغراءاتها، ولأهمية هذا الكلام كموعظة ثقافية ننقله للعبرة لمن يعتبر ، فالمرحوم قال: "للأسف فإن البعض من الكتاب خضع لإغراءات السلطة وأحيانا ضغوطاتها وإيديولوجيتها فانضموا إليها، وطبلوا لها وغنوا معها في زفة واحدة، وهم بذلك تركوا الشعب والمستقبل والضمير وراءهم، فكانوا مأجورين وليسوا أصلاء وكان إنتاجهم إنتاجا ظرفيا سرعان ما ذرته الرياح... ثم يضيف الراحل" وهذه الظاهرة ما تزال ماثلة عندنا، فلدينا كتاب ومؤرخون وباحثون وأدباء تغريهم السلطة بالمناصب والألقاب فينجذبون إليها فإذا أدخلوا بيت الطاعة استلذوا الحياة وصعب عليهم الخروج من البيت لأنهم أصبحوا مثقلين بالذرية ومطالب الحياة اليومية فماتت فيهم المواهب وانقطعت الطموحات وحل بهم البؤس الفكري، وأشهد أن البعض ممن رفضوا بيت الطاعة وجدوا أنفسهم مهمشين في وطنهم، وفيهم من اختاروا وطنا بديلا، مع الأسف" وإلى هنا ينهي مؤرخ الأمة التشخيص البئيس لنخبنا الذي تعاظم مع مرور الوقت وأضحى يشكل خطرا حقيقيا مع غياب عمالقة في مقام سعد الله الذي آثر الحكمة لدرجة أنه وبكل اعتزاز وفخر ودون عقدة نقص التي استشرت كالهشيم في صفوف بعض أشباه المثقفين المزيفين كالذين تحدث عنهم الكاتب باسكال بوتيفالس والذين يجب فضحهم وكشفهم كذلك عندنا على طريقة الكاتب المؤدب محمد عباس في إصداره "الاندماجيون الجدد"، فهذا سعد الله يقول: "إنني كتبت ما كتبت بعيدا عن السلطة التي لا أشعر أنني مدين لها بشيء، وعندما يتحرر الإنسان من الديون يستطيع أن يفكر بحرية..." نعم هذا هو الطريق الذي اختاره الدكتور سعد الله وبذلك يستحق بحق أن يلقب بشيخ المثقفين الشرفاء الذين نفتقدهم، فهو رغم ترحاله وإقامته في بلاد العرب والعجم لم يستورد لنا لا جبة السلفية الوهابية المتخلفة ولا قبعة العم سام المتعجرفة أو يقبض الريال والدولار من هذا أو ذاك وإنما بقي زاهدا ومحتفظا ومعتزا بشخصيته ووفيا للجزائر ولتاريخها وثقافتها وحضارتها وفقط، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

عدة فلاحي/ كاتب وبرلماني سابق                

[email protected]

  

مقالات الواجهة

الأكثر قراءة

  1. تحسباً لعيد الفطر.. بريد الجزائر يصدر بيـانا هاما

  2. دولة عربية تتجه لحجب "تيك توك"

  3. هذه حالة الطقس لنهار اليوم الخميس

  4. الإصابة تنهي موسم "رامي بن سبعيني" مع دورتموند

  5. منذ بدء العدوان.. إرتفاع حصيلة شهداء غزة إلى 32552 شهيد

  6. القرض الشعبي الجزائري يطلق قرضًا لفائدة الحجاج

  7. بيان من وزارة الخارجية حول مسابقة التوظيف

  8. الفريق أول السعيد شنقريحة في زيارة عمل وتفتيش إلى قيادة الدرك الوطني

  9. "SNTF".. برمجة رحلات ليلية على خطوط ضاحية الجزائر

  10. الفنانة سمية الخشاب تقاضي رامز جلال.. ما القصة؟