بكم تبيعون القدس؟

ما هو الثمن إذن؟

 

لم يعد السؤال: هل تبيعون القدس؟ فهذا السؤال لم يعد عمليا.. وهومن الماضي المودع في الأرشيف.. أما السؤال القائم فعلا فهو: بكم تبيعون القدس؟ التفاوض على الثمن وليس على المبيع.. فنتانياهووضع يده على البضاعة.. وهي تحت حراسة جنوده.. ولا يُسمح لأحد بالاقتراب منها.. وكل من يتحدثون عن القدس باعتبارها عاصمة لدولة فلسطين الافتراضية ـ في الأجل المنظور على الأقل ـ.. يعلمون أنهم يكذبون ويراوغون.

 فالصفقة في خطوطها العريضة أبرمت.. وتم تناولها على مدى عشرين أوثلاثين سنة.. أعني منذ 1992.. وتم التوقيع بالأحرف الأولى على عقد التنازل تحت مسمى صفقة القرن.. ولم يبق سوى التفاوض بشأن شروط التنفيذ لا أكثر: بكم تبيعون؟ وهل تقبضون باليوروأم بالدولار؟ وأين يودع ثمن المبيع؟ ومن يكون شاهدا على عملية نقل الملكية؟ أي إن القضية برمتها لا تتجاوز حد الإجراءات.. وما عدا ذلك فقد تم البت فيه.. ولا يمكن التراجع عنه.

الدليل على أن البيع قد تم هو: كم بقي من القدس في أيدي مالكيها الأصليين؟ وهل من قيمة عملية لسند الملكية الذي يحتفظ به عباس في جيبه؟ يقينا أنه لم يبق منها الكثير.. كانتون البلدة القديمة المحاصر من الجهات الأربع.. وما بداخل أسوار الأقصى الذي ينتهكه الصهاينة يوميا ويحفرون أسفله.. والفلسطيني الذي يفقد حق الإقامة في القدس لأتفه سبب.. والذي يُمنع من إضافة غرفة لسكنه القديم المتداعي.. وإذا غامر وفعل ذلك.. تتولى جرافات الصهاينة هدمه على حسابه.

وهل يستطيع أحد من غير بقايا الفلسطينيين من سكان القدس الدخول إليها بغير تأشيرة إسرائيلية؟ فالذي يصدر الإذن بالدخول هو من يملك مفاتيح الأبواب.. وهوالمخول بوضع الحواجز في الشوارع والطرقات والمسالك الالتفافية.. وهو الذي يستطيع إغلاق الأبواب متى شاء وطرد من يشاء.. فعلى الأرض لم تعد القدس مدينة عربية أوإسلامية.. بل هي مدينة مهودة.. ولم تبق سوى الرتوش الأخيرة التي يضعها باعة القدس من أصحاب الجلالة والفخامة.

 قرار ترامب "نقل السفارة الأمريكية إلى القدس" لم يأت من فراغ.. لقد لاحظ كيف تتفاقم غريزة حب التنازل عند السياسيين العرب الحاليين .. وكيف تتحكم في قراراتهم الرغبة في بيع كل شيء مقابل الكرسي الذي يلتصقون به.. فهم يمتنعون اليوم ليقبلوا غدا.. ويشجبون الآن ليعتذروا بعد دقيقة أودقيقتين.. وحين تفلت منهم كلمة "لا ".. سرعان ما يجهزون عليها بـ "نعم".. وهم لا يملكون أي خط أحمر يضبط إيقاع التنازل لديهم.. وعند هذا الحد استغل ترامب الفرصة السانحة لينقض على المدينة.. مدركا أن من يعارضه في العلن يؤيده في الخفاء.. ومن سكت عن الأمر يستعجله نقل السفارة وتخليصه من صداع دام سبعين عاما.. والقلة القليلة من الصادقين سيجرفهم تيار التنازل.. وستصبح القدس كالأندلس مقطعا حزينا في مرثية أشد حزنا.

كل العرب شهود على الصفقة.. الجامعة العربية والأنظمة الرسمية العربية وسلطة رام الله المستأمنة على الـ 20 بالمائة الباقية من فلسطين التاريخية.. فلا أحد من هؤلاء يملك اعتراض طريق ترامب أوأحلام نتانياهو.. فالجنرال السيسي يخبر ترامب ـ من باب رفع الحرج ـ " بضرورة العمل على عدم تعقيد الوضع بالمنطقة من خلال اتخاذ إجراءات من شأنها تقويض فرص السلام في الشرق الأوسط ".. وولي العهد السعودي يصرح بأن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، نقل سفارة بلاده إلى القدس "خطوة مؤلمة".. أما عباس فيحذر "من خطورة تداعيات مثل هذا القرار على عملية السلام والأمن والاستقرار في المنطقة والعالم".. وكل هذه المواقف لا تمثل رفضا.. بل هي من موافقة مبطنة بحرير المفاوضات.

 

ما هو الثمن إذن؟

بالنسبة إلى النظام الرسمي العربي.. الثمن المطلوب هو رضا أمريكا عن الجميع.. وألا يسعى الغرب في عمومه إلى دعم المعارضة السياسية.. وأن يوفر له الغطاء الإعلامي الذي يخفي عوراته ويسكت عنه.. وقد يزينه عند الضرورة ليسهل تسويقه.. وأن يضع في يده بعض الإعانات المالية والمادية التي تضمن بقاءه حيا.

السيسي من أوائل البائعين.. وهو يبيع شيئا ليس له.. لكنه يملك معبر رفح الذي يستغله في تطويع الفلسطينيين.. وقهرهم على الرضا بكانتون صحراوي في سيناء.. وجماعة الخليج كشفوا عن وجه خياني لا نظير له.. فعند بعضهم "القدس ليست شيئا" وفلسطين هي أرض يهودية تاريخيا.. وما على الطاولة يخفي ما تحتها.. والاستمرار في الحكم برعاية أمريكية يقتضي القبول بسيادة إسرائيل على القدس.. ولا مانع لدى هؤلاء من هدم الأقصى وبناء الهيكل.. مادامت جزيرة العرب ـ كما يسمونها ـ تتسع لأكبر معبد هندوسي في الشرق الأوسط.

وهل يتوفر عباس على خيار آخر سوى الصمت.. أو إحداث ضجة إعلامية مشفوعة ببعض العنتريات الفارغة.. وهو الذي يقتات من الإحسان الأمريكي.. فلو أمسكت أمريكا عونها عنه لمات جوعا.. فجماعة رام الله لم يدخلوا الضفة فاتحين بل جاؤوها مستثمرين.. وهم يملكون اليوم مصالح مالية وتجارية يديرونها بغطاء سياسي.. وبوعود المفاوضات العبثية التي يقدمونها للشعب الفلسطيني المنكوب في الداخل والخارج.

 كل العرب دون استثناء.. وأعني بهم المنخرطين في صفقة القرن.. والمشاركين في الضغط على الفلسطينيين باعوا واستوفوا الثمن.. منهم من قبضه كاملا.. ومنهم من تلقى تسبيقا منه.. ومنهم من ينتظر مؤخر الصداق لتكتمل فرحة " الزيجة "..  أما الجامعة العربية الموافقة على ما تفعله الحكومات فليست أكثر من قارئ "فرمانات" السلطان.. فهي لا تملك وجودا معنويا مستقلا.. لكنها تظل كيانا جامعا لكل الذين يبيعون ويشترون ما ليس لهم.

مقالات الواجهة

الأكثر قراءة

  1. الأمن الوطني: إلقاء القبض على فتاة مبحوث عنها محل 54 أمر بالقبض في وهران

  2. ارتفاع متوقع في درجات الحرارة غدا السبت بهذه المناطق

  3. حوالي 42 ألف مسجل للحصول على بطاقة المقاول الذاتي

  4. الأهلي المصري يبلغ نهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة الخامسة تواليا