الحلال بيّن والحرام بيّن

فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟

لقد أثلج صدري وشد من أزري، هذه الزوبعة التي أثيرت في فنجان الإعلام، حول ما نُسب إليّ، من تحليل الربا، وإباحة القروض البنكية، وما إلى ذلك من الأراجيف والأباطيل التي لا يسلّم بها إلا ذو عقل سخيف، ومتعود على صياغة الأراجيف.

فأن يهب من يذب على دين الله ضد إباحة ما هو حرام، كالربا، فهذه علامة صحة، إن صاحبها صدق النية، وحسن الطوية، ومقصد الخيرية، لكن الوقائع أثبتت عكس ذلك، للأسف الشديد.

فالقرآن قد أدبنا، فأحسن تأديبنا، حينما نبّهنا في آيته: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (سورة الحجرات ـ الآية 06).

وأنا أضيف مستلهما من الأدب القرآني ومن الواقع الإعلامي، فأقول "حتى إن جاءكم صادق بنبإٍ، فتبيّنوا"، خصوصا إن كان من خبر الآحاد، وحديث الآحاد لا يعمل به في أشهر الأقوال، خصوصا فيما قد تعم به البلوى.

ذلك أنه لا يماري في حرمة الربا ـ تحت أي طائل ـ إلا جاهل، أو جاحد، أو فاقد للمبادئ الأخلاقية أو الدينية. فكيف جاز لمخالب القطط البرية، المترصدة، أن تخرج من جحورها المظلمة "لتقصف بالثقيل" على حد تعبير صحيفة الحوار، التي نكنّ لها كل الاعتبار؟

  نعتقد أنّ هذا كله، إنما جاء من انعدام ثقافة الإعلام الصحيحة، التي أدّت إلى إعلام الإثارة، وشنّ الغارة، في محاولة لكسب مصالح التجارة. فما نشرته صحيفة النهار، من تصرف، في حديث أجرته معي حول فوضى الفتوى في الجزائر، قد حاد عن مقصده، ووقفت الصحفية فيه عند مبدإ "ويلٌ للمصلين". ذلك أنّ من أبسط قواعد الإعلام، أن يُعرض الحديث على صاحبه ليوقّعه ويتحمل مسؤوليته قبل نشره، ولكن تجلى فقدان المهنية الإعلامية، في قلة العلم، وسوء الفهم، وفساد الحكم.

  وبدل أن يلجأ الإعلاميون المعلّقون على هذا الحكم الفاسد، إلى مصدر الحديث لطلب التوضيح، قبل اللجوء إلى التجريح والتقبيح، راحوا يقصفون على حدّ زعمهم، بالعيار الثقيل لإثبات ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهو القول بأنّ "الربا حرام".

  إنّ من المعلوم في الإعلام بالضرورة أيضا أن يُطلب الرأي والرأي المخالف، ويُنشرا معا في نفس الزاوية حتى تتم الاحترافية الإعلامية وتكتسب الوسيلة الإعلامية المصداقية المهنية.

  وتعالوا نسألكم! هل من الفقه وأدب الاختلاف، أن نحكم على قول ما رجماً بالغيب، بمجرد أنّ صحفية نسبت له ذلك؟ أليس من الأجدى أن نستوضح من صاحب الأمر، القول الصحيح، والسياق الذي تم فيه التصريح، وما هو النص الحقيقي بالقول الفصيح؟ ولماذا اللجوء إلى الأحكام الفاسدة، التي لا يسندها علم، ولا يدعمها حسن فهم، فمتى كانت الفلسفة تقبيحاً، والفقه تزييناً، والحال أنّ الفلسفة، هي أم العلوم، بما فيها الفقه، وحب الحكمة، ومنها مقاصد الفقه؟

  وإذا احتكر الفقه طائفةٌ معينة، وحيل بينه وبين المنطق، الذي هو الشارح لمقاصد الشريعة، فماذا سنفعل بالتراث الإسلامي الغزير، وفطاحل علمائه، كالغزالي في "إلجام العوام عن علم الكلام"، وأبي الوليد ابن رشد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، وفخر الدين الرازي في كتابه "التفسير الكبير"، وغيرها، وكلها من أمهات الكتب؟

لا يا حضرات الباحثين، والجامعيين والمجتهدين! لقد انقضى عصر احتكار الاختصاص الفقهي، ونحن اليوم نعيش عصر الفقه الإسلامي المتفتح على علوم العصر، من فلسفة، وعلم اجتماع، وعلم نفس وطب، وكلها تسعف المفتي، في تشخيص نوازل المجتمع، وإيجاد العلاج الناجع الذي يأخذ بعين الاعتبار كل الظواهر الإنسانية والاجتماعية.

ولنعد إلى قضية القروض البنكية وغيرها وما تتضمنه من ربا، وهو حرام بإجماع الأئمة لا استثناء فيه، لماذا لا يعمد إلى أصل الداء، وهو التشريع الخاطئ، الذي يبيح الربا في المعاملات، بما فيها قروض الشباب، في دولة دينها الإسلام بنص الدستور؟

 لماذا لا نطالب، بإلغاء الأصل في كل هذه المشاكل؟ أم هل أنّ الربا حلال على الدولة، حرام على الشباب؟

لا، لم يقل أحد أبدا، بجواز الربا، تحت أي طائل، وما قلناه هو أنّ الدولة في قروض "الأونسيج"، قد ألغت الربا وأنّ نسبة الواحد بالمئة، قد تكفّلت الدولة نفسها بدفعها، ومع ذلك فالمضطر إلى هذه القروض، عليه دفعاً لكلّ شبهة، أن يخرج صدقة، من هذا المال، مصداقا للحديث "وأتْبِع السيئة الحسنة تمحُها"، وقوله تعالى "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَات".

وما دام الشاب المقترض، قد أكدت له الدولة أنه لا ربا في القرض، وهو محتاج إليه لبناء مستقبله، فأين الحرج؟

إنما نريد لمثقّفينا أن يكتسبوا ثقافة الحوار التي من بنودها أدب الاختلاف، وذلك بالبعد عن "القصف بالثقيل" والتأدب بأدب الإسلام، "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (سورة سبأ ـ الآية 24).

أما التنطع والقفز على رقاب الناس فهذا ما لا يقره أي منطق، أو دين، أو خلق.. وقديما قيل:

ألم تر أنّ السيف يزرى بحده

              إذا قيل هذا السيف أمضى من العصا

ويبقى الحلال بيّناً والحرام بيّنا، وللمفتي، حتى ولو كان فيلسوفا ـ حق الاجتهاد في ما لا يخالف الشرع، ولا يعلن عن كفر بواح، فالحكم الفيصل بين الجميع هو الكتاب والسنة. مع فهم صحيح لهما وتطبيق أصح لأحكامهما، والله يعصمنا من الزلل، وإلا انطبق علينا قول الغزالي:

غزلت لهم غزلاً رقيقا فلم أجد

         لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي

  

    

مقالات الواجهة

الأكثر قراءة

  1. تحسباً لعيد الفطر.. بريد الجزائر يصدر بيـانا هاما

  2. دولة عربية تتجه لحجب "تيك توك"

  3. هذه حالة الطقس لنهار اليوم الخميس

  4. الإصابة تنهي موسم "رامي بن سبعيني" مع دورتموند

  5. منذ بدء العدوان.. إرتفاع حصيلة شهداء غزة إلى 32552 شهيد

  6. القرض الشعبي الجزائري يطلق قرضًا لفائدة الحجاج

  7. بيان من وزارة الخارجية حول مسابقة التوظيف

  8. الفريق أول السعيد شنقريحة في زيارة عمل وتفتيش إلى قيادة الدرك الوطني

  9. "SNTF".. برمجة رحلات ليلية على خطوط ضاحية الجزائر

  10. الإحتلال الإسرائيلي يغلق معبر الملك حسين الحدودي مع الأردن