لا.. لتجفيف المنابع..!

بقلم الأستاذ الدكتور عبد الرزاق قسوم

كتب الله في سننه الكونية أن الكائن الحي يعيش بالخصوبة والإخصاب. فمن آيات الله في الكون أن الإخصاب هو رمز النمو والتكاثر، وأن التجفيف هو عنوان التناقص والتناثر. تنطبق هذه القاعدة على الطبيعة، وعلى الحيوان، والإنسان، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ"(سورة الأنبياء/ الآية 30).

 فإذا غاب الإخصاب حل محله التجفيف، وهو الحيلولة دون إنماء، فيكون القحط والعقم وفقد النماء والعطاء.

ولقد سطا على قاعدة النماء والعطاء مادياً ومعنوياً، سماسرة السياسة، وأعداء الإنسانية، فأحدثوا ما عرف، في سياستهم الهوجاء، بمعركة الأرحام، هذه المعركة التي خاضها أعداء الإنسانية في أجزاء من العالم، كفلسطين، إذ عمدوا إلى تجربة التعقيم، وتعطيل الأمومة عن ممارسة دورها، وإجهاض الأرحام قبل اكتمال رسالتها، وذلك بغرض دنيء هو محاربة التناسل والتكاثر البشري.

ثم ابتليت البشرية بكارثة أخرى، وهي تجفيف المنابع العقدية، بوضع كل العراقيل أمام النبع الثري، الفياض، للحيلولة دون وصول ماء نبعه إلى العقل، وإلى القلب لتجفيفه، وتعقيمه، والحيلولة دون إخصابه وعطائه.

ذلك ما بشر به بعض المنظرين الأبالسة، وعرّابي سياسة التطهير العرقي، والفرز الإيديولولجي، والتعقيم العقلي.

 ونظرة فاحصة إلى التاريخ المعاصر، لتتجلى لنا هذه النظرية الهدامة، مجسدة في الأقوال والأعمال.

 فهذا الدبلوماسي العجوز، كيسنجر الذي أصبح متخصصاً في سياسة يجوز أو لا يجوز. وفي حديث أدلى به إلى الصحيفة الفرنسية اليمينية "لوفيغارو" عام 2003، تحدث هذا المنظّر الخطير، عن تجفيف المنابع الدينية، ممثلة في المدارس القرآنية. فقد وصف هذه المدارس القرآنية، بأنها مصادر للإرهاب، وأنها تقدم ثقافة معادية للغرب، وبالتالي يجب استئصالها لأنها تمثل خطراً على الغرب، وعلى الولايات المتحدة.

  إن هذه النظرية الخاطئة، التي يبشر بها الدبلوماسي العجوز "كيسنجر"، هي النظرية التي أخذ بها عُرّاب الربيع العربي، برنار ليفي، والتي تواصل تطبيقها في أجزاء من الوطن العربي. إنها التجربة المرجوة التي طبقها بعنف نظام الرئيس المخلوع بن علي في تونس، حينما عمد إلى غلق المدارس القرآنية، بوصفها حسب زعمه منابع للإرهاب الإسلامي، فضيق على كل المظاهر الإسلامية من حجاب، ولحية، وصلاة في المساجد، وفتح كتاتيب، وهذه هي سياسة ما يعرف بتجفيف المنابع.

إن الأخطر من كل هذا، في هذه النظرية الهوجاء، هو اللجوء إلى تغيير كتاب الله، كما حدث في الولايات المتحدة، في حذف آيات الجهاد من القرآن، وطبع ما أطلقوا عليه "القرآن الأمريكي الحق".

وإن أخشى ما أخشاه اليوم، هو أن تنتقل سياسة تجفيف المنابع بغلق المدارس القرآنية إلى بلادنا، بالتضييق على التربية الإسلامية، بإفراغها من محتواها، كحذف آيات الجهاد، وهو عماد وجودنا، نحن بلد الجهاد، وبلد الشهداء.

وإلا ماذا يعني إلحاق مؤسساتنا التربوية باليونسكو؟ أليس هذا يعني ضمنياً إخضاع مضامين المناهج التربوية للمراقبة الغربية، والتحكم في ما يقدم وما لا يقدم من آيات القرآن؟

  ثم إن هذه الدعوة التي ترفع اليوم في بلادنا، مطالبة بإصلاح المدارس القرآنية، أي إصلاح يريدون؟ هل يريدون بذلك إغلاق المدارس القرآنية؟ وماذا يبقى لأمة القرآن، إن هي حرمت من القرآن؟ نخشى أن يعيدنا الحديث عن إصلاح المدارس القرآنية، إلى الإصلاح السيء الذكر، وهو إلغاء التعليم الأصلي، الذي لا نزال نعاني تبعاته الخطيرة إلى اليوم.

إننا من منطلق الناصح الأمين، يحدونا الوفاء، لعلمائنا، وشهدائنا، وتعبيراً منا عما يختلج في نفوس أبناء شعبنا، نحذر من الإقدام على أية خطوة، من شأنها أن تؤجج نار الغضب، ونشر الفتنة، باسم إصلاح المدارس القرآنية، ونعتقد أن الشعب الجزائري المسلم، قد يرضى بكل شيء، إلا أن يحرم أبناؤه من تعلم القرآن.

إن الأمل معقود في أن تتحمل المدرسة الجزائرية مسؤولية إعادة التكفل بالقرآن في المدارس العمومية، وتخصيص حيز أكثر للقرآن، في مختلف مراحل التعليم وأطواره، من الحضانة إلى التعليم الجامعي، فذلك أفضل وسيلة للقضاء على أسباب التطرف، والغلو، ومحاربة الإرهاب المعادي للقرآن، وإعادة الطفل، والشاب والمواطن، إلى الحضن الصحيح للإسلام بحفظ جيد للقرآن، وفهم أفضل لآياته، وتطبيق أسلم لأحكامه، أما هذه الفقاقيع التي تطلق في الهواء باسم إصلاح مزعوم، وبإشراف اليونسكو بالذات، فذلك ما يناقض ذاتنا الحضارية، وقناعتنا الإسلامية، وسيادتنا الوطنية.

نحن مع كل إصلاح يجلب الخير لأجيالنا، ونحن مع الأخذ بالأصلح من كل تجارب الأمم المتقدمة في مجال التربية، بشرط واحد ألا يكون ذلك على حساب كتابنا وسنتنا الصحيحة.

فكل ما نملك من طاقة، وما بقي فينا من نفس، نقول لا لتجفيف المنابع، فتلك نظرية بالية، أكل الدهر عليها وشرب، وهي تجربة نشاز، أبعد ما يكون عن واقعنا التربوي بكل مكوناته، ونهيب بالقائمين على الشأن التربوي عندنا، والموكول إليهم أمر التعليم القرآني كل من موقع مسؤوليته، أن يصونوا الأمانة وأن يحفظوها، فذلك هو أقل معاني الوفاء للشهداء، والعلماء، والأصلاء، رائدنا في كل ذلك قول الله تعالى: "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون" (سورة البقرة/ الآية 281).

 

 

مقالات الواجهة

الأكثر قراءة

  1. منذ بدء العدوان.. إرتفاع حصيلة شهداء غزة إلى 33970 شهيد

  2. رياح قوية وزوابع رملية على 5 ولايــات

  3. إطلاق خدمة بطاقة الشفاء الإفتراضية.. هذه هي التفاصيل

  4. انفجارات في أصفهان وتقارير عن هجوم إسرائيلي

  5. رهانات قوّية تُواكب مشروع مصنع الحديد والصلب في بشار

  6. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني

  7. بلعريبي يتفقد مشروع مقر وزارة السكن الجديد

  8. رسميا.. مباراة مولودية الجزائر وشباب قسنطينة بدون جمهور

  9. "الله أكبر" .. هكذا احتفل نجم ريال مدريد بفوز فريقه (فيديو)

  10. لليوم الثالث.. موجة الفيضانات والأمطار تجتاح الإمارات