
يعرف أن إسرائيل تخشى شهر رمضان المبارك، وتعتبره أثقل شهور السنة عليها، فكيف إذا كانت ستتعامل معه هذا العام في ظل كل ما يجري في المنطقة منذ اشتعالها يوم السابع من أكتوبر الماضي؟
عشية شهر رمضان، بدأت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تعدّ العدّة للشهر الأثقل عليها طَوال العام، خاصةً أنه يأتي هذا العام في ظل الحرب على قطاع غزة، سواء توقف القتال قبل أو خلال الشهر أم لم يتوقف، وفي ظل هياج غير مسبوق لجماعات المستوطنين واليمين المتطرف في إسرائيل بعد هزيمة السابع من أكتوبر، التي لم تتمكن إسرائيل بعدُ من استيعابها أو التعامل مع آثارها بالرغم من كل الدمار الذي نشرته في قطاع غزة، والحرب المعلنة منها على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس.
حيث تعمل إسرائيل على التحضير العملي لهذه المرحلة مبكرًا من خلال تسريب أنباءٍ تفيد بوجود خلافات بين الجيش والشرطة في موضوع السماح لفلسطينيي الضفة الغربية بالوصول إلى الأقصى في شهر رمضان القادم.
وكانت قد أفادت القناة 12 الإسرائيلية بوجود انتشار كبير لقوات الأمن في محيط المسجد الأقصى خوفا من اضطرابات عنيفة مع بدء شهر رمضان.
وفي الآونة الأخيرة، دعا عدد من الوزراء في حكومة بنيامين نتنياهو إلى فرض قيود على وصول فلسطينيي الضفة الغربية والخط الأخضر إلى المسجد الأقصى.
وفي المقابل، دعت الفصائل الفلسطينية وقيادات إسلامية داخل الخط الأخضر إلى شد الرحال إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان.
للإشارة، سيتقاطع موسم شهر رمضان المبارك القادم مع عدد من مواسم الاقتحامات في المسجد الأقصى، أولها عيد المساخر "البوريم" الذي سيحل في منتصف شهر رمضان، وبالرغم من أنه ليس من مواسم الاقتحامات الكبرى في العادة، فإن تزامنه هذا العام مع تحدي شهر رمضان ومعركة "طوفان الأقصى" يكسبه أهميةً خاصةً لدى جماعات المعبد المتطرفة
لذلك، فإن التحضيرات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية هذا العام للتعامل مع هذا الشهر الفضيل تعتبر الأشد حساسيةً منذ الاحتلال الإسرائيلي للمسجد عام 1967، تبعًا للظروف غير المسبوقة التي تمرّ بها.
وهذا ما نقلته صحيفة "يديعوت أحرونوت" قبل أيام، حيث يدعي الصحفي الإسرائيلي إيتمار أيكنار أنه بينما تريد شرطة الاحتلال -التي تعمل تحت سلطة الوزير إيتمار بن غفير – تنفيذ سياسة "صفر فلسطينيين"؛ أي منع جميع سكان الضفة الغربية، تحديدًا، من الوصول إلى المسجد الأقصى في رمضان، فإن قيادة الجيش الإسرائيلي ترى ضرورة السماح لأعداد محدودة من سكان الضفة بالوصول للأقصى لتنفيس الضغط الشديد في الضفة الغربية.
وينبغي التذكير بأن ارتفاعَ الروح الدينية لدى المسلمين خلال أيام شهر رمضان عمومًا يُعتبر المسألة الكبرى التي تتخوف منها إسرائيل. لأن هذه الروح هي التي تدفع الفلسطينيين في تلك الأيام بالذات إلى تكثيف الاستعدادات النفسية والأعداد الشعبية على حد سواء لتحدي الإجراءات الإسرائيلية إلى أعلى درجة، وهذا ما لا تريده إسرائيل، لأن أي شرارة كبرى في القدس يمكنها أن تشعل انتفاضة جديدة أو تؤدي إلى توسيع نطاق الحرب إلى المدى الذي لا تستطيع إسرائيل ولا حلفاؤها الوقوف في وجهه.
فمنذ اليوم الأول لمعركة "طوفان الأقصى"، منع الاحتلال الغالبية العظمى من المصلين من دخول المسجد. لم تُعلن شرطة الاحتلال حينها عن تقييدٍ محدد بعينه، أدت في نهاية المطاف إلى صدّ الناس عن مسجدهم وقهرهم أكثر فأكثر.
وشمل ذلك التقييد في بداية الحرب موظفي دائرة الأوقاف الذين نُكّل بهم وفُتشوا قبل الدخول، ولُوحق بعضهم بعد انتهاء دوامهم الرسميّ، وأُجبروا على الخروج من المسجد. كما جرى تفتيش حقائب بعض الوافدين للصلاة ومنعهم من إدخال الطعام، واحتجاز بطاقات هوياتهم على الأبواب. في المقابل، استمر اقتحام المستوطنين للمسجد، دون أي قيد، وأصبح في أحيانٍ كثيرة يحمل عنوان "الصلاة من أجل الجنود في غزّة أو إحياء ذكرى القتلى منهم".
أدّت هذه السياسة إلى حرمان عشرات آلاف الشبان المقدسيين من دخول المسجد، وقد شهد حي وادي الجوز، شمال المسجد الأقصى، في كل جمعة مواجهات مع شرطة الاحتلال، التي نصبت الحواجز ومنعت الناس أحياناً حتى من أداء الصلاة في الشارع وضربتهم بقنابل الصوت والمياه العادمة والرصاص المطاطي. كما أدّت إلى توقف حركة الحافلات النشطة التي كانت تنقل آلاف المصلين أسبوعيّاً من قرى ومدن الداخل.
وفي السنوات الأخيرة، أضحى شهر رمضان فرصةً يستغلها الفلسطينيون لتثبيت علاقتهم بالمسجد الأقصى، والتصدي لسياسات الاستيطان فيه، فامتزجت عبادة الصلاة مع عبادة الرباط.
بطبيعة الحال، يزداد عدد المصلين في المسجد خلال الشهر الفضيل من أبناء القدس والمدن والقرى المحتلة عام 1948، وينجح أحياناً بعض أبناء الضفّة الغربيّة، المحرومين منه بفعل الحواجز والجدران العسكرية الإسرائيليّة، في تخطيها والوصول إليه، فيصل عددهم مجتمعين في أيام الجمع الرمضانية إلى حوالي 300 ألف مصلٍّ.
وازدياد الكتلة البشريّة للفلسطينيّين في المسجد يعني ازدياد احتمالات انطلاق المظاهرات والمواجهات فيه، خاصّةً إذا تزامن ذلك مع عدوانٍ على المسجد أو على قطاع غزّة، أو تزامن مع اشتعال الميدان في القدس والضفّة. وإذا وقع هذا التزامن فغالباً ما تُفعّل شرطة الاحتلال قيودها وتنكيلها على المصلين منعاً لتصاعد الاشتعال في وجهها. تشمل القيود: تحديد أعمار من يسمح لهم بالدخول، منع أهالي الضفة، وغيرها.
في العام 2014 مثلاً، بدأ شهر رمضان بجريمة خطف وقتل الطفل محمد أبو خضير، ثمّ انطلقت معركة "العصف المأكول" في غزّة. في ذلك الشهر، قيّد الاحتلال دخول المصلين إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة، فوصل عدد المصلين في بعض الجمع 14 ألف مصلٍ فقط، وقيّد الدخول إلى صلاة التراويح في ليلة القدر (السابع والعشرين من رمضان) بمن هم فوق الـ50 عاماً من الرجال. وقد تحوّلت تلك الليلة إلى مواجهات ساخنة جداً على بوابات الأقصى في محاولة لدخوله.
كما أنّ رمضان، وبفضل تلك الكتلة البشريّة الكبيرة، شكّل خلال السنوات الأخيرة فرصةً لحماية وتعزيز العلاقة مع بعض النقاط المستهدفة داخل المسجد، كما حدث في إحياء وتنظيف الساحة الشرقيّة بالقرب من باب الرحمة خلال رمضان 2018، بعد أن منع الاحتلال ذلك لسنوات.
وفي العام 2021 تزامن ما يُسمّى "يوم القدس" الإسرائيلي، مع اليوم الثامن والعشرين من رمضان (10 ماي )، الذي كان يوماً مشهوداً نجح فيه عشرات آلاف المعتكفين من شباب القدس والداخل والضفّة من خلال المواجهات، في صدّ الاقتحام ومنعه تماماً، ثمّ تدخلت المقاومة في غزّة في معركة "سيف القدس" على وقع ذلك، ووقع الاحتجاجات في حي الشيخ جرّاح.
تأسيساً على هذه التجربة الناجحة، كان الأمل معقوداً أن يُصد كذلك اقتحام المستوطنين للأقصى في رمضان 2022، ورمضان 2023، والذي وقع فيهما عيد "الفصح اليهوديّ"، وهو أحد المواسم التهويدية الأساسية في الأقصى، إذ يتصاعد فيه عدد المقتحمين، ويُعلنون عن نيّتهم ذبح القربان في الأقصى، وتنفيذ مختلف الشعائر الدينية المتعلقة بالعيد داخل الأقصى. لكنّ ذلك لم يحصل، لغياب التنظيم ووحشية الرد الإسرائيلي. وقد اقتحمت قوات الاحتلال المصلى القبلي في العامين، واعتقلت منه في كل مرة ما بين 400 -500 شاب، بعد أن اعتدت عليهم بوحشية.
في الثامن فيفري الجاري، الذي صادف ذكرى الإسراء والمعراج، "سمح" الاحتلال لعدد متزايد من الناس بدخول المسجد، حتى وصلوا عند صلاة الظهر إلى حوالي 15 ألف مصلٍ، غالبهم من النساء والأطفال، وهو عدد لم يُسجّل ولم يُتخطى منذ 7 إلا في عدد محدود من صلوات الجمع. في الوقت نفسه، منع الاحتلال المئات غيرهم، خاصة من الفتية والشبان، بل أحياناً منع نساء مع أطفالهن، كما اشترط دخول آخرين بتفتيش حقائبهم أو احتجاز هوياتهم.
وفي اليوم ذاته أيضاً، انتشر عناصر الشرطة بين الناس في ساحات الأقصى لمراقبتهم، واعتقلوا 7 فلسطينيين من بينهم فتيات. كذلك وقف بعض العناصر عند البائكة الجنوبية الغربية، لمنع تعليق أي لافتة داعمة للمقاومة، حيث اعتاد الشبان ذلك خاصة في رمضان والعيدين.
عدا عن مسألة الدخول إلى الأقصى، فإنّ "إسرائيل" تحاول فرض المزيد من التغول على الأقصى مستغلةً حالة الضعف والقمع الذي فرضته منذ بداية الطوفان.
على سبيل المثال، تتداول بعض الأوساط في الأقصى أن شرطة الاحتلال تحاول منع الأوقاف من تشغيل سمّاعات المسجد في الجهة الغربيّة المحاذية لباب المغاربة وحائط البراق.
كما أنها استدعت خلال الأسبوع الأخير عدداً من الناشطين الأسرى السابقين من مدينة القدس، لتهديدهم من النشاط خلال رمضان، وأصدرت بحقّهم أوامر إبعاد عن البلدة القديمة والمسجد الأقصى. خلال الجمعة الأخيرة أيضاً، اعتقلت قوات الاحتلال عدداً من الشبان خلال محاولتهم تخطي حواجزها والوصول إلى الأقصى، ثمّ أفرجت عنهم بشرط الإبعاد عن الأقصى.
إضافة إلى ذلك، بدأت سلطات الاحتلال ببعض الإجراءات الأمنية الميدانية، فيما يبدو تحضيراً لرمضان، فنصبت بعض الحواجز، ووضعت مكعبات إسمنتية عند باب الأسباط، أحد أبرز الأبواب المؤدية إلى الأقصى، كما وضعت بالقرب من باب الساهرة مكعبات إسمنتية وصنعت منها برجاً عسكرياً للمراقبة
هل السرّ "نبوءة دينية" ؟
من جهة، يقول أستاذ دراسات بيت المقدس د. عبد الله معروف، في حديث لـ "الخليج أونلاين": أنه "بوجود عدد من الوزراء المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية الحالية، فإن الصراع بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال سترتفع حدته".
إن "المسجد الأقصى دائماً ما كان يمثل كابوساً للاحتلال الإسرائيلي، ولكل الحكومات الإسرائيلية على مدار تاريخ الصراع".
كما يبين أن "الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تخشى من أن تؤدي هذه الحكومة دوراً سلبياً في زيادة الاحتقان بمنطقة حساسة مثل القدس، خاصةً إن كان الأمر متعلقاً بشهر رمضان المبارك الذي يرتفع فيه الحس الديني بشكل كبير جداً".
ويرى أيضاً أن "تقييد الدخول إلى المسجد الأقصى في شهر رمضان، يعني بالدرجة الأولى أن هذه الحكومة اتخذت قراراً واضحاً بالصدام مع المسلمين في هذا الشهر، وأنا أعني ما أقول".
السبب وفق معروف، هو أن "هذه الحكومة يوجد فيها عدد من الوزراء المتطرفين الذين يتبعون التيار المسمى بالتيار الخَلاصيّ؛ وهو التيار الذي يؤمن دينياً بنبوءات نهاية العالم ونبوءات تقوم على فكرة أنه يجب دفع العالم إلى حافة الهاوية وحافة حرب دينية لأجل أن يُنزل الله المسيح المنتظر لهذه الجماعات".
ويضيف: "قد يبدو هذا الأمر غريباً لكنها مسألة حقيقية يؤمن بها عدد من وزراء هذه الحكومة وعلى رأسهم المتطرف إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وغيرهما من أتباع تيار الصهيونية الدينية".
كما أكد معروف أن "أتباع هذا التيار يقيسون حساباتهم السياسية بناءً على رؤاهم الدينية"، لافتاً إلى أن "هذه مسألة في غاية الخطورة، وتبين أن هذه الحكومة تسير وفق أساطير دينية يمكن أن تؤدي إلى صدامات دينية، لا يمكن أن يتصور أحدٌ مدى خطورتها والمدى الذي يمكن أن تتوسع إليه هذه الصدامات".