السينما الجزائرية في بدايتها... سينما إنسانية

أدخلت الجزائر العالمية بمُحاكاتها الفكر الثوري

الفيلم الجزائري اليوم.. صناعةٌ محلية بحتة بحساباتٍ جهوية

 

مازال الفيلمُ الجزائري "مُغيّباً" عن الواقع السينمائي الذي يتطور مع مرور الوقت إلى صناعة مُحترفة المعالم والمضمُون، ما جعل الكثير من المخرجين لا يستطيعُون تقديم الأعمال التي يحلمُون بها، لأنه من غير المنطقي أن يتدهور الإنتاج في وقتٍ أصبحت فيه الوسائل التقنية مُتوفرة وفي متناول الجميع، وهذا ما فتح الباب أمام الدخلاء "لتسقط" المهنة بين أيدي من لا علاقة لهم بعالم السينما الجزائرية.

لقد كان للفيلم الجزائري، وعلى مدار سنواتٍ خلت، دورٌ كبير في مجالات عديدة أهمها التوعية وبعث الفكر المُتجدد للهوية والانتماء الواحد رغم تعدُد الثقافات، إلى جانب إحياء رُوح المُبادرة من خلال الاستغلال الأمثل للطاقات الفكرية الموجودة، ومن ثم فإنّ العمل بهذا المجال والاحتراف فيه يبدأ وينتهي في مجال التصوير الذي من خلاله يمكنُ إظهار العديد من الاسقاطات الاجتماعية، غير أن اقتحام بعض المُخرجين الذين لا يحملون أية كفاءة مهنية للعمل أوممن يعتبرون أنفسهم طاقات حيوية بهذا الوسط جعلهُ دائما في مصافِ "الابتدائيات" التي لا ترقى إلى مواجهة العالم الآخر للمُنافسات الدولية سواءٌ العربية منها أو العالمية، حتى وإن كان الأمرُ كذلك فإنّ أعمالهم تفضحُهم، وبالتالي لا يستطيعون الصمود أمام السينمائيين المُحترفين أمثال أحمد راشدي أو علواش أو السعيد ولد خليفة أو بشير درايس وغيرهم ممن قدمُوا الكثير لهذا الفن، لأن لهؤلاء مانعٌ لتجسيد أفكار بنّاءة من شأنها أن تخدم الهوية الجزائرية الحقيقية.

الصورة السينمائية الأولى.. كانت قضية مبدأ

يعتبرُ الفيلم الجزائري عند ولادته بذروة الحرب الفرنسية الإستعمارية، مُكملاً للثورة التحريرية، وجزءاً لا يتجزأ من العمل النضالي، إذ كانت لديها المقدرة الكافية على السير في خطوط متوازية ومتوازنة، مع المسلح والسياسي، لتخليص البلاد من المستعمر الفرنسي، الذي غاص بجذوره في قلب هذه الأرض العربية، مُوهما العالم بأنها مقاطعة فرنسية، تقتاتُ من خيراتها معظم بلدان أوروبا، لتكون بذلك عبارة عن مخزون لا ينضب، ومن الصعب أن يتعاطف معها هذا العالم المادي، لذا كان لزاماً على صُنّاع الثورة، أن يجدوا قالبا مُميزا يوصلون من خلاله فكرة أن الثورة عادلة، وشعبها ليس قاطع طريق أوإرهابي، وإنما هوصاحب أرض، وباحث عن الحرية، التي أغتصبت منه، ولن يكون هذا القالب أبلغ من الصورة السينمائية، فأعدوا العدّة.

وتم استقدام مؤهلين لذلك، من فنيين وتقنيين ومُخرجين، يحسبون على داعمي ومؤيدي الثورة الجزائرية، جاؤوا من دول أجنبية مختلفة، لنقل الخبرات لهم، وإعداد أفلام وثائقية وتسجيلية، عن الثورة والثوار، ليتم خلق أول مدرسة تعلم تقنيات السينما الجزائرية، وقد انضم إلى هذه المدرسة في بدايتها العديد من الأسماء، الذين استشهد مُعظمهم في ساحات القتال، فيما لا يزال آخرون يصنعُون مجد السينما الجزائرية، أبرزهم محمد لخضر حمينة، أحمد راشدي، عثمان مرابط، صلاح الدين سنوسي، فرذلي الغوتي مختار، على جنادي، مراد بن رايس، سليمان بن سمعان، عبد القادر حسنية، فاضل معمر زيتوني وغيرهم من المُؤسسي.

وقد كانت مهمة المدرسة خلال شهورها الأولى بعد مرحلة التأسيس تكمل في تعريف الطلبة بأهم تقنيات السينما، في محاولة لتنسج علاقة بينهم وبين الآلات، وإعداد أفلام وأشرطة وثائقية حول المدرسة نفسها، وتسجيل العمليات التي قام بها الثوار، قد أنجزت العديد من الأعمال خلال تلك الفترة العصيبة، رغم شح الموارد، ونقص اليد المؤهلة، والحصار الكبير المفروض من طرف المُستعمر، غير أن المعطيات السلبية المذكورة لم تكن عائقا يقف في وجه طموح السينما الثورية، وتم تحدي هذه المُعوقات بإرادة حديدية، وبإيمان راسخ بالمبادئ ونُبل رسالة الصورة، ليتم إنجاز أعمال أعتبرت جدُ مُهمة من الناحية التاريخية، وحتى من الجانب الجمالي والفني، إذ تتوفرُ فيها كل الشروط الضرورية، ووثقت لمرحلة مهمة من تاريخ نضال الشعوب المقهورة والمحتلة عبر العالم، ومن أهم هذه الأعمال "ممرضات جيش التحرير الوطني"، وفيلم "الجزائر الملتهبة" الذي أخرجه رونيه فوتيه.

دُخلاء على عالم السينما... ومخرجون غير مؤهلين

صناعةُ الفيلم الجزائري اليوم لم تعُد تؤمن بمباديء العمل "المُوجه" للمشاهد الجزائري بعينه، بل أضحت شبه مستنسخة عن ثقافات مُجاورة أخرى، مقارنة مع المُؤسسين القدامى لهذا المجال فبعد الاستقلال مباشرة تكاثفت جُهودٌ عديدة من أجل بناء مؤسسات هذه الدولة المستقلة حديثا، كان أهمُها خلق مركز للسمعي البصري الذي أنشأته وزارة الشباب والرياضة في نفس سنة الاستقلال، كلف على أثره الفرنسي صديق الثورة الجزائرية ومُناصرها "رونيه فوتيه" بتسييره والإشراف عليه، حيث تم إنتاج العديد من الأفلام التسجيلية القصيرة، على يد مخرجين جزائريين شباب، ما عدا فيلم روائي واحد طويل بعنوان "مسيرة شعب" للمخرج أحمد راشدي.

وبعد سنة تم إنشاء مؤسسة جديدة تابعة لوزارة الإعلام والثقافة، وضع على رأسها المخرج محمد لخضر حمينة، والذي كتب اسمه بالذهب على صفحات السينما العالمية الخالدة، وقد كانت مهام المكتب وقتها هي إعداد تقارير إخبارية أسبوعية، لكن لخضر حولها فيما بعد إلى منتجة للأفلام التسجيلية والروائية، لتظهر جهة ثالثة تهتمُ بالسينما الجزائرية، وخلق أرشيف خاص بها، كما تم من خلال ذلك الهيكل فتح برامج تعليمية لفنون العمل السينمائي تم من خلاله تكوين العديد من المؤطرين، على رأسهم مرزاق علواش، وسيد على مازيف، ولمين مرباح.

العشرية السوداء دمرّت العمل السينمائي

أخذ الفيلم الجزائري بوقت مضى، نصيباً من التواجد، لكن تقهقرها اليوم يُرجعهُ مختصون إلى القيود التي فرضتها الجماعات الإسلامية المتشددة التي حدت من تطوره بفترة العشرية التي عاشتها الجزائر، وبالتالي فقد خلقت هُوّة شاسعة المعالم بين تقدمهُ نحو أفق جديد، وبقي محصوراً على نجاحات سابقة، وتعد تلك المرحلة بالسوداء في تاريخ السينما الجزائرية، كما أن معظم المخرجين الجزائريين يعملون حاليا خارج وطنهم لأسباب كثيرة على رأسها توّفر التمويل وقدرتهم على التعبير عن آرائهم بعيدا عن الرقابة في الداخل الذي بدأ مؤخرا يتخذُ أوضاعا أكثر تحررا. لذلك يعتبر آخرون أنها ورغم كل شيء مما سبق ذكره، فهاته الأخيرة قد بدأت تستعيدُ عافيتها في السنوات الأخيرة بسبب النشاط الكبير الذي يقوم به الفنانون الجزائريون المقيمون في المهجر. 

للتذكير فإن الجزائر كانت قد عاشت مرحلة سينمائية متطورة جدا فيما مضى حيثُ كانت تضم أكثر من 400 دار عرض، والجزائر اليوم ليست بلدا يؤمن أغنياؤه بضرورة تمويل السينما أوأهمية السينما كجانب ثقافي وبالتالي هرب المبدعون إلى الخارج لكن السنوات الأخيرة شهدت بعض التغير في الثقافة الجزائرية من الممكن أن ينتُج عنها تحولاً في السنوات اللاحقة، كما أن ضرورة الاهتمام بترويج الأفلام الوطنية في الدول العربية، مازالت حالة أو ظاهرة على قلتها تخلق نوعاً من التلاقي بين الثقافات التي تجمعها لغة ودين ومنطقة جغرافية واحدة، مع أن المشكلة تكمُن في الجمهور العربي نفسه الذي يقبل مشاهدة فيلم أمريكي أو أوروبي لكنه لا يقبل على مشاهدة فيلم جزائري معللا ذلك بصعوبة فهمه للهجتنا المحلية.

عودة العمل بمشاريع جديدة

وظهر مقرّر وزاري مفاده تحويل الأفلام الموجودة في دائرة السينما التابع لإحدى المؤسسات التابعة له لتطوير السينما، وعن المدينة السينمائية التي أعلن عنها وزير الثقافة في بداية أكتوبر الماضي، ففيلم "بن باديس" كان السبب في انطلاق مشروع بناء المدينة السينمائية، من خلال تشييد جُزء من حي السويقة بقسنطينة لتصوير الفيلم، وخلال فترة تحضير الفيلم تقرر بناء ديكور متكامل المعالم من أجل التصوير لعدة أيام، سيدوم ويستعمل في إنتاج أفلام أخرى، ويكون حجر أساس بناء المدينة السينمائية، خاصة أنّ الحديث دائما يتكرّر حول بناء أستوديوهات للسينما وأهمية الصناعة السينمائية في الجزائر، وإنجاز الديكور تكلفته من الفيلم وليست له إضافة مالية أخرى.

وقد تمّ بناء جزء من السويقة في العاشور، وضمن فيلم "بن مهيدي" سيتم تشييد شارعين من قصبة الجزائر، وهناك ديكور فيلم بن مهيدي الذي تم في تونس وهو مجسّم لمدينة أوروبية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. وعليه فهذه المدينة السينمائية ستُبنى على مراحل وفق الأفلام التي يتمُ إنجازها، وبناء مرافق ملحقة باللباس والماكياج، خاصة أنه قد تمّ استرجاع العديد من الأكسسورات والملابس التي تعود لأفلام سابقة، على غرار فيلم "فاطمة نسومر" و"الأمير عبد القادر" وغيرهما.

وسيتم استعمالها في فيلم بن باديس وبن مهيدي. والجدير بالذكر أنّ وزير الثقافة عز الدين ميهوبي أعلن قبل أشهرعن مشروع إنشاء أكبر مدينة سينمائية في منطقة المتوسط، ستسمح بتصوير الأفلام التلفزيونية، والتي سيستمر إنجاز هذا المشروع بدعم بعض المستثمرين الذين أبانوا عن رغبتهم في ذلك، وصرح للصحافة بأنّ مشروع المدينة السينمائية سيمكّن من تحقيق أهداف السينما الجزائرية، مُشيرا إلى خطوة المخرج والمنتج بلقاسم حجاج، المتمثّلة في إنشاء أوّل أستوديو سيغني المنتجين عن اللّجوء إلى المخابر الأجنبية..

.. حتى أنه أكد أنّ الصناعة السينمائية في الجزائر لابدّ لها من فضاءات، بحيث تمّ بناء حي كامل يمكن أن تصوّر فيه أفلام سينمائية ومسلسلات وبرامج وحصص تلفزيونية، وقد بني بطريقة فنية رائعة وبمقاييس متميّزة، ولذلك فالعمل على بناء هذه الأستوديوهات بالتدريج وفي كلّ مرة هي خطوة للأمام حتى نتوفّر على أكبر مجمّع أو مدينة سينمائية.

كما أن هناك استثمارات جزائرية خاصة مستعدة للدخول كشريك، وفي الأخير لم يستسلم المبدعون الذين آثروا البقاء في الجزائر وواصلوا العمل مُتحدين كل الإخطار وتمكنوا بإمكانيات ضئيلة من تقديم أفلام رائعة جسدت الواقع على الشاشة مثل "المنارة" لبلقاسم حجاج و"جبل باية" للمرحوم عز الدين مدور و"الجارة" للغوتي بن ددوش و"القلعة" و"دوار النساء" لمحمد شويخ وأيضا فيلم "رشيدة" لأمينة بشير شويخ.

وقد أعادت هذه الأفلام الثقة لدى السينمائيين الذين تأقلموا مع أساليب الإنتاج الجديدة بعد زوال احتكار الدولة للقطاع وظهر سينمائيون شباب وشركات إنتاج وتوزيع، مما خلق جواً من المُنافسة والإرادة في العمل وتحقيق طموحاتهم في زمن أصبحت فيه صناعة الأفلام مجهود شركات وتعاون متعدد الأطراف والجنسيات.

وفي ظل هذه المتغيرات عاد الفيلم الثوري بقوة إلى الواجهة فبعد فيلم "بن بولعيد" لأحمد راشدي، وفيلم "كريم بلقاسم و"العربي بن مهيدي" من إنتاج المخرج والمنتج بشير درايس، ويبقى الفيلم الجزائري يصارع بقاءه من ضمن الفنون التي تأبى إلا أن تضع بصمتها.

مقالات الواجهة

الأكثر قراءة

  1. الأمن الوطني: إلقاء القبض على فتاة مبحوث عنها محل 54 أمر بالقبض في وهران

  2. ارتفاع متوقع في درجات الحرارة غدا السبت بهذه المناطق

  3. حوالي 42 ألف مسجل للحصول على بطاقة المقاول الذاتي

  4. الأهلي المصري يبلغ نهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة الخامسة تواليا