بالفيديو.."الخفافجية": لذة طازجة منذ 97 عاماً

التونسي الأشهب كان السبّاق إلى فطائر (السفنج) سنة 1921

يصرّ حرفيون من نوع خاص على الاستمرار في التغريد والنأي بالناس عن الملل، إنهم "الخفافجية" الذي يبرعون بطاقياتهم وقمصانهم البيضاء الرفيعة في طهي عجائن شعبية شهية هي فطائر (السفنج) أو ما يُعرف بــ "الخفاف".

بكثير من خفة الظلّ وحلاوة الصنعة، يتفنن هؤلاء في طهي "الخفافات" الطرية التي تلقى رواجا لافتا في ربوع الجزائر، ولا ينافسها في ذلك سوى العجائن المرنة المحشوة "المحاجب" التقليدية، والمعجنات المثقوبة "البغرير" وتوابعها.

وتتمظهر (الخفافات الطازجة) كخبيزات صغيرة من العجين الخفيف يتم قليها في صحون كبيرة مملوءة بالزيت، تغري المستهلكين وتسيل لعابهم، فيسارع الشاب كما الشابة، فضلا عن الكهول والشيوخ والعواجيز إلى محلات (الخفافجية) علّهم يظفرون بـ(خفافات) لذيذة ترطّب لسانهم وترفع عنهم ألوان الكرب ومساحيق الغبن، فمن هؤلاء (الخفافجية) الذي يخطفون الأضواء، ويستبسلون في الدفاع عن حرفة متوارثة عن حقبة الأتراك وعهد الدولة العثمانية في الجزائر؟.

 عمودية "الأشهب"                                

منذ افتتاح حرفة (الخفافجية) قبل 97 سنة على يد العميد التونسي "منجي الأشهب" عام 1921 بحي القصبة العتيق (أعالي العاصمة)، ظلت أحياء القصبة، باب الوادي، العقيبة، باش جراح وغيرها من أزقة العاصمة والحواضر الكبرى: القليعة، مليانة، مستغانم، أهمّ قلاع (الخفافجية)، كانت وجهتنا إلى محلّ "عمي السعيد" بحي (مناخ فرنسا)، وهو أحد أعرق محلات (الخفاف) على مستوى الجزائر، إذ صمد منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

التقينا بمحمد (35 عاما) الذي كان منهمكا بإعداد متطلبات "الخفاف"، كان يدعك بيديه كتلة كبيرة من العجائن في خفة ومهارة، موظفا كميات هائلة من الدقيق والفرينة والزيت، قبل أن يتركها "تتخمر" لفترة معتبرة" ليشرع بعد 45 دقيقة في إلقاء (الخفافة) تلو الأخرى في صينية كبيرة مملوءة بالزيت، علما إنّ الخفافة الواحدة لا يستغرق طهيها أكثر من دقيقتين.

حرج على أعتاب المئوية

قال لنا محمد:" ورثت هذه الحرفة عن جدي الأكبر رحمه الله الذي افتتح هذا المحل العتيق العام 1933، ونحن نستعد بإذن الله للاحتفال بمئويته عبر تظاهرة ضخمة العام 2033 إن شاء الله"، وبشأن رواج (الخفاف)، أوضح محدثنا، إنّه يصنع رفقة مساعديه آلاف (الخفافات) يوميا، بيد أنها لا تفي بالغرض، ويقول محمد ضاحكا: "نجد حرجا في تلبية الطلبات المتزايدة لزبائننا الذين يرفض كثير منهم مغادرة المحل خاوي الوفاض، ونلجأ أحيانا إلى بذل مجهود إضافي للوفاء بالمطلوب، علما أننا نشرع في العمل منذ السابعة صباحا، ونستمر أحيانا إلى غاية الثامنة ليلا".

والملاحظ، هو تغير طباع الجزائريين تجاه (الخفاف) وتعاطيهم معه على نحو مخالف، فبعد أن كان (الخفاف) يُتناول بالشاي عصر كل يوم، صار الكثير يفضل تناوله في الصباح الباكر، بدلا عن الحلوى الشائعة محليا، كما تمتلئ محلات (الخفافجية) بهواة تناول (الخفافات) وهي ممزوجة بحلوى (قلب اللوز) الشهيرة.

ويعترف الخفافجية في الجزائر، بأنّ جيرانهم التونسيين هم من كانت لهم الأسبقية في ابتكار الخفاف والتفنن فيها أيام عهد الدولة العثمانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبهذا الصدد أورد مؤرخون أنّ بلدة "غمرسان" الواقعة بجوار ولاية (طاطاوين) التونسية، هي منشأ (الخفافجية) ومنها انحدر كبار "الخفافجية " وتوزعوا بين الجزائر وليبيا والمغرب ومالي.

نسيان

عجائن "الخفاف" اصطلح عليها على أنّ جمهور مستهلكيها هم من البسطاء والكادحين، تبعا لثمنها (20 دينارا للقطعة الواحدة)، لكن مشاهداتنا تكذّب ذلك، فقد التقينا عبد الصمد (35 سنة) وهو مؤسس شركة خاصة، قال أنّه لا يستغرب جنوح الناس وراء تقسيم الأكلات إلى فصيلة خاصة بالفقراء وأخرى بالأثرياء، وصرّح إنّه يتناول الخفافات بشراهة شديدة، لأنّها (ترفع من معنوياته وتنسيه المشاكل).

من جهته، ذكر الطالب الجامعي عبد المالك (21 سنة) إنّ له موعدا يوميا مع الخفاف، ولا يتصور التحاقه بمدرجات الكلية، قبل ممارسته لطقوس الخفاف، ونجد الانطباع ذاته لدى بركات (26 سنة) وشريف (27 عاما)، اللذان أشادا بروح المسؤولية والحرفية التي دفعت بالخفافجية، إلى رفض أي رفع للأسعار، رغم لهيب المواد الأولية، فالدقيق صار ساخنا، والزيت تضاعف إلى حدود 600 دينار، ورغم الأعباء إلاّ أنّ "الخفافجية" بعراقتهم، امتنعوا عن أي زيادة في منتوجاتهم، حتى تظلّ هذه الصناعة محافظة على نكهتها الخاصة.


استمساك رغم الإنهاك

في مقابل الوجه المشرق الذي يطبع يوميات الخفافجية، إلاّ أنّ ثمة سوء طالع ودوامة من المشاكل تلاحق فرسان الحرفة العتيقة، فقد أدى غلاء المواد الأولية وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين بجانب الارتفاع المطرد في الرسوم الضريبية المفروضة، إلى إقدام عدد هام من "الخفافجية" إلى إغلاق محلاتهم ومزاولة مهن أخرى، وهو ما يتهدّد الحرفة بكاملها بشبح الزوال، إذا ما استمر الوضع على المنوال ذاته.

ويحرص كثير من الخفافجية أن يوصلوا صرختهم ويهيبوا بالجميع للحيلولة دون اندثار مهنة يرونها فنا، يسعون إلى نشره في سائر البلدان العربية ولما لا أوروبا وغيرها، حتى وإن يٌظهر الحاج البشير (60 سنة) واقعية أكبر، ويرفض التمادي في الأحلام، مفضلا الاكتفاء بالحلم الأهمّ، صون واستمرار مسار الخفافجية تحت أي ظرف.

 

مقالات الواجهة

الأكثر قراءة

  1. طقس الخميس.. امطار غزيــرة على هذه الولايات

  2. منذ بدء العدوان.. إرتفاع حصيلة شهداء غزة إلى 34305 شهيد

  3. حول طلبات التقاعد.. بيان هام من "كاسنــوس"

  4. حج 2024.. بيان هام من الديوان الوطني للحج والعمرة

  5. وفد صيني يحل بتندوف لإنجاز محطة إنتاج الكهرباء بغار جبيلات

  6. لأول مرة في الجزائر.. بناء 11 سفينة صيد بطول 42 متر

  7. إصابة 10 أشخاص في حادث مرور بالأغواط

  8. للمستفيدين من سكنات عدل.. جلسة عمل تقنية لمراقبة العملية التجريبية للمنصة الالكترونية

  9. فؤاد الثاني.. أخر ملوك مصر يعود الى قصره بالاسكندرية

  10. الجرعات الزائدة من البطيخ قد تكون مميتة في حالات معينة.. ماهي؟