ما أقدمت عليه المستشارة “ميركل” لا يفعله رئيس ممن يفتخرون بطول شواربهم.. هذه المرأة التي تحكم ثالث أقوى قوة اقتصادية في العالم.. وتتقدم أوروبا كلها.. وتدير باقتدار شؤون أحد أكثر شعوب الأرض تنظيما وكفاءة وجدية.. تصاب طائرتها الرئاسية المتجهة إلى قمة العشرين في الأرجنتين بعطل فني.. فتعود أدراجها إلى المطار.. ومن هناك تسافر إلى إسبانيا.. لتستقل بمعية وفدها المرافق ـ محدود العدد ـ طائرة تجارية.. وتجلس بجانب مواطن أرجنتيني عادي لم يصدق ما رأى.. هل رأيتم شيئا من هذا القبيل يحدث في دولة أخرى؟ وهل تصدقون أنه سيحدث في دولة عربية يوما ما؟
باستثناء ما عُرف عن رئيس الأورغواي السابق ـ أبوالفقراء كما يسمى ـ.. والذي يستخدم سيارته القديمة في التنقل.. ويأبى الإقامة في القصر الرئاسي.. فإن ما قامت به ميركل سابقة لم تسجل من قبل.
كان بإمكانها الأمر بإحضار طائرة خاصة لها ولوفدها.. فتطير إلى الأرجنتين دون أن يحرجها أحد.. لكنها اختارت التصرف كأي مواطن ألماني.. تعطلت الطائرة الرئاسية.. فليس لها أن تطلب طائرة خاصة.. وما يضيرها أن تستقل طائرة تجارية.. لتؤدي مهامها وتعود إلى بلادها.
بهذه الأخلاق الكبيرة ارتقى هؤلاء القوم.. وبغيابها في بلاد العرب تذيلوا القافلة البشرية.. ولو أن أحدهم تعطلت طائرتهم.. لاستأجر طائرة خاصة على ذمته.. ولسبقته إلى وجهته قافلة من السيارات الفارهة.. ولأحاط به فريق من الأعوان لهم أول وليس لهم آخر.
الحرص على صيانة المال العام.. وخفض المصاريف العمومية.. والخضوع للمحاسبة الدقيقة عن أي استعمال فاشل لأموال دافعي الضرائب.. هوما يحكم تصرفات الحكام في الديمقراطيات العريقة.. وليس لهؤلاء أن يخوضوا في المالية العامة باعتبارها من جملة مالهم الخاص.. ويزداد إكبارنا لأمثال المستشارة ميركل.. كلما بدرت منهم أخلاق هي أقرب ما تكون إلى أخلاق “الخلفاء الراشدين” عندنا نحن المسلمين..بغض النظر عن الدافع إليها.. فالمسألة هنا موصولة باحترام الدستور والقوانين المشتقة منه.. وبالأخلاق العامة التي يجب أن تضبط مواقف وسلوكيات الحكام والمسؤولين.
ألمانيا تحقق فوائض مستمرة في ميزانيتها العامة.. غير أن هذا لم يمنع ميركل من التصرف على هذا النحو المثالي.. ما يذكرنا بمستشار ألمانيا الأسبق “هيلموت كول” الذي أنجز وحدة ألمانيا.. فقد سيق إلى المحكمة بسبب أن حزبه لم يصرح بإعانات مالية قُدمت له.. فلم تخضع للضريبة..أعتقد أنه يجب أن نبدأ من هنا..من هذه الأخلاق التي افتقدناها.. وكسبها غيرنا.
